يقول أحد الدعاة: دعاني ابنٌ لأحد كبار التجار يوماً لزيارة والده المريض، سألت الولد عن مرض أبيه فقال: هو مصابٌ بتليفٍ في كبده وسرطان في أجزاء أخرى في جسده لكن الطبيب لم يخبره بذلك، ونحن لم نخبره أيضاً فهو لا يدري عن مرضه شيئاً.
دخلت على هذا التاجر فإذا هو على السرير الأبيض عمره لم يتجاوز الستين، لم يتمكن المرض منه بعد ولا يزال جسمه نشيطاً إلى حدٍ ما، صافحني ثم أمر أولاده بالخروج، فلما خرجوا وبقيت أنا وهو ظل ساكتاً ثم بكى والتفت إليَّ وقال:
آه يا شيخ تباً لهذه الدنيا، منذ أن عرفت نفسي وأنا أجمع الأموال وأعدُّها عداً وأغامر في مختلف التجارات، كم كنت أتعب في ذلك وأنشغل عن عبادة ربي، كم نمت عن الصلاة بسبب السهر على الأموال ومتابعة الشركات، وكم غفلت عن قراءة القرآن وبخلت عن الإنفاق على المساكين والأيتام.
يقول: كم أتتني والله يا شيخ نصائح من بعض الفضلاء بالحرص على الطاعة وعدم الغفلة عن الغاية التي خلقنا من أجلها وللتزود لدار الآخرة، ولكن كنت أقول ليس بعد، بل إذا بلغت الستين أعطيت نفسي تقاعد وإشتريت مزرعة، وأقمت في راحة وعبادة حتى الموت.
ثم هأنذا يفجعني ما نزل بي من مرض وأسأل أولادي عن المرض فيقولون: هو التهابات يسيرة واضطرابات في الهضم وأنا أظن الأمر على غير ذلك.
ثم بكى الرجل وقال: هل رأيت أولادي هؤلاء الذين يدعونك لزيارتي ويظهرون الشفقة والرحمة بي، بالأمس جلسوا عندي فتظاهرت بالنوم ليخرجوا عني، فلما ظنوا أني قد نمت بدؤوا يتكلمون عن تجارتي ويحسبون أموالي وكم سينال كل واحد منهم من التركة وكيف سيتمتع بالمال.
ثم إرتفعت أصواتهم وإختصموا على عمارة كبيرة لي، قال الأول نبيعها وندخل ثمنها في التركة، وقال الآخر بل نؤجرها، وصاح الثالث بل تكون من نصيبي، وإرتفعت الأصوات تباً لهم يختصمون في مالي وأنا حي بين أظهرهم.
ثم بدأ ينوح على نفسه ولسان حاله يردد: {ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه} الآية {رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت}.
¤ وقفـــــة:
الذي يتأمل أحوال كثير من الناس في هذا الزمان يرى العجب العجاب وكأنهم لم يخلقوا للعبادة، وإنما خلقوا للدنيا وشهواتها، فإنهم إن فكَّروا فللدنيا وإن أحبوا فللدنيا وإن عملوا فللدنيا، فيها يتخاصمون وبسببها يتركون كثيراً من أوامر ربهم، قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أخوف ما أخاف عليكم اِتباع الهوى وطول الأمل، فأما إِتباع الهوى فإنه يصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فإنه ينسي الآخرة.
وكان يقول: إرتحلت الدنيا مدبرة، وإرتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.
ويقول ابن القيم رحمه الله: ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أماني والوقت ضائع بينهما.
أسأل الله جلا وعلا أن يجعل الدنيا في أيدينا وألا يجعلها في قلوبنا، وأن يرزقنا وإياكم الحرص للتزود للدار الآخرة.
الكاتب: شامل بن إبراهيم.
المصدر: موقع ياله من دين.